فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَحَصُورًا}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والقول الثاني: وهو اختيار الجمهور: أن المراد من قوله: {بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} هو عيسى عليه السلام، قال السدي: لقيت أم عيسى أم يحيى عليهما السلام، وهذه حامل بيحيى وتلك بعيسى، فقالت: يا مريم أشعرت أني حبلى؟ فقالت مريم: وأنا أيضا حبلى، قالت امرأة زكريا فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله: {مُصَدّقًا بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} وقال ابن عباس: إن يحيى كان أكبر سنًا من عيسى بستة أشهر، وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة الله وروحه، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى عليهما السلام، فإن قيل: لم سمي عيسى كلمة في هذه الآية، وفي قوله: {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ} [النساء: 171] قلنا: فيه وجوه:
الأول: أنه خلق بكلمة الله، وهو قوله: {كُنَّ} من غير واسطة الأب، فلما كان تكوينه بمحض قول الله: {كُنَّ} وبمحض تكوينه وتخليقه من غير واسطة الأب والبذر، لا جرم سمى: كلمة، كما يسمى المخلوق خلقًا، والمقدور قدرة، والمرجو رجاء، والمشتهي شهوة، وهذا باب مشهور في اللغة.
والثاني: أنه تكلم في الطفولية، وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية، فكان في كونه متكلمًا بالغًا مبلغًا عظيمًا، فسمي كلمة بهذا التأويل وهو مثل ما يقال: فلان جود وإقبال إذا كان كاملًا فيهما.
والثالث: أن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق، كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلهية، فسمى: كلمة، بهذا التأويل، وهو مثل تسميته روحًا من حيث إن الله تعالى أحيا به من الضلالة كما يحيا الإنسان بالروح، وقد سمى الله القرآن روحًا فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].
والرابع: أنه قد وردت البشارة به في كتب الأنبياء الذين كانوا قبله، فلما جاء قيل: هذا هو تلك الكلمة، فسمى كلمة بهذا التأويل قالوا: ووجه المجاز فيه أن من أخبر عن حدوث أمر فإذا حدث ذلك الأمر قال: قد جاء قولي وجاء كلامي، أي ما كنت أقول وأتكلم به، ونظيره قوله تعالى: {وكذلك حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أصحاب النار} [غافر: 6] وقال: {ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين} [الزمر: 71].
الخامس: أن الإنسان قد يسمى بفضل الله ولطف الله، فكذا عيسى عليه السلام كان اسمه العلم: كلمة الله، وروح الله، واعلم أن كلمة الله هي كلامه، وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذاته، وعلى قول المعتزلة أصوات يخلقها الله تعالى في جسم مخصوص دالة بالوضع على معان مخصوصة، والعلم الضروري حاصل بأن الصفة القديمة أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال: أنها هي ذات عيسى عليه السلام، ولما كان ذلك باطلًا في بداهة العقول لم يبق إلا التأويل. اهـ.

.قال الألوسي:

{مُصَدّقًا بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} نصب على الحال المقدرة من {يحيى}، والمراد بالكلمة عيسى عليه السلام وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعليه أجلة المفسرين وإنما سمي عيسى عليه السلام بذلك لأنه وجد بكلمة كن من دون توسط سبب عادي فشابه البديعيات التي هي عالم الأمر، و{مِنْ} لابتداء الغاية مجازًا متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة أي بكلمة كائنة منه تعالى وأريد بهذا التصديق الإيمان وهو أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدق أنه كلمة الله تعالى وروح منه في المشهور. أخرج أحمد عن مجاهد قال: قالت امرأة زكريا لمريم: إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك. وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال: كان يحيى وعيسى ابني خالة وكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه له وكان أكبر من عيسى بستة أشهر كما قال الضحاك وغيره، وقيل: بثلاث سنين، قيل: وعلى كل تقدير يكون بين ولادة يحيى وبين البشارة بها زمان مديد لأن مريم ولدت وهي بنت ثلاث عشرة سنة أو بنت عشر سنين، واعترض بأن هذا إنما يتم لو كان دعاء زكريا عليه السلام زمن طفولية مريم قبل العشر أو الثلاث عشرة، وليس في الآية سوى ما يشعر بأن زكريا عليه السلام لما تكرر منه الدخول على مريم ومشاهدته الرزق لديها وسؤاله لها وسماعه منها ذلك الجواب اشتاق إلى الولد فدعا بما دعا، وهذا الدعاء كما يمكن أن يكون في مبادئ الأمر يمكن أن يكون في أواخره قبيل حمل مريم وكونه في الأواخر غير بعيد لما أن الرغبة حينئذ أوفر حيث شاهد عليه السلام دوام الأمر وثباته زمن الطفولية وبعدها، وهذا قلما يوجد في الأطفال إذ الكثير منهم قد يلقي الله تعالى على لسانه في صغره ما قد يكون عنه بمراحل في كبره فليس عندنا ما يدل صريحًا على أن بين الولادة والتبشير مدة مديدة ولا بين الدعاء والتبشير أيضا، نعم عندنا ما يدل على أن يحيى أكبر من عيسى عليهما السلام وهو مما اتفق عليه المسلمون وغيرهم، ففي إنجيل متى ما يصرح بأنه ولد قبله وقتله هيردوس قبل رفعه وأنه عمد المسيح والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وحكي عن أبي عبيدة أن معنى {بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} بكتاب منه، والمراد به الإنجيل وإطلاق الكلمة عليه كإطلاقها على القصيدة في قولهم كلمة الحويدرة للعينية المعروفة بالبلاغة. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَسَيّدًا}:

.قال ابن عادل:

السيد: فَيْعِل، والأصل سَيْود، ففُعِلَ به ما فعل بميت، كما تقدم، واشتقاقه من سَادَ، يَسُودُ، سِيَادَةً، وسُؤدُدًا- أي فاق نظراءه في الشرف والسؤدد.
ومنه قوله: [الرجز]
نَفْسٌ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَاما ** وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ والإقْدَامَا

وَصَيَّرَتْهُ بطلًا هُمَامَا

وجمعه على فَعَلَة شاذ قياسًا، فصيح استعمالًا؛ قال تعالى: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} [الأحزاب: 67].
وقال بعضهم: سُمي سيِّدًا؛ لأنه يسود سَوَاد الناس أي: مُعْظَمهم وجُلَّهم. والأصل سَوَدَة، وفَعَلَة لِفاعل نحو كافِر وكفرة، وفاجِر وفَجَرَة، وبارّ وبررة.
وقال ابن عباس: السَّيِّد: الحليم.
قال الجبائي: أنه كان سيدًا للمؤمنين، ورئيسًا لهم في الدين- أعني: في العلم والحلم والعبادة والورع.
قال مجاهدٌ: السَّيِّد: الكريم على الله تعالى.
وقال ابن المُسَيِّبِ: السيِّد: الفقيه العالم.
وقال عكرمة: السيد: الذي لا يغلبه الغضبُ.
وقيل: هو الرئيس الذي يتبع، ويُنتَهَى إلى قولهِ.
وقال المفضل: السيد في الدين.
وقال الضحاك: الحسن الخلق.
وقال سعيد بن جبير: هو الذي يُطيع ربَّه.
ويقول عن الضَّحَّاكِ: السيد: التقِيّ.
وقال سفيان: الذي لا يحسد.
وقيل: هو الذي يفوق قومَه في جميع خصال الخيرِ.
وقيل: هو القانع بما قسم الله له.
وقيل: هو السَّخِيّ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَيدُكُمْ يَا بَنِي سَلمةَ»؟ قالوا: جَد بن قَيْس على بُخْلِه، فقال: «وأي دواء أدوى من البخل، لكن سَيِّدَكم عمرو بن الجموح» وفي الآية بذلك دليل على جواز تسمية الإنسان سيدًا كما تجوز تسميته عزيزًا وكريمًا. وقال صلى الله عليه وسلم لبني قريظة: «قوموا إلى سيِّدكم».
وقال في الحسن: «إن ابني هذا سَيِّدٌ، فلعلَّ اللهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْن عَظِيْمَتين من المسلمين».
قال الكسائي: السيّد من المَعْز: الْمُسِّن. وفي الحديث: «الثَّنِيُّ من الضَّأن خير من السَّيِّد مِن الْمَعْزِ الْمُسِنّ».
وقال الشاعر: [الطويل]
سَوَاءٌ عَلَيْهِ شَاةُ عَامٍ دَنَت لَهُ ** لِيَذْبَحَهَا للِضَّيْفِ أمْ شَاةُ سَيِّد

.قال الجصاص:

وقوله تعالى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الله تعالى يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ؛ لِأَنَّ الله تعالى سَمَّى يَحْيَى سَيِّدًا، وَالسَّيِّدُ هُوَ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ لِلْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لِلْحُكْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ: «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ»؛ وَقَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ»؛ وَقَالَ لِبَنِي سَلِمَةَ: «مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ؟» قَالُوا: الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ، قَالَ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنْ الْبُخْلِ وَلَكِنْ سَيِّدُكُمْ الْجَعْدُ الْأَبْيَضُ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ» فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى سَيِّدًا.
وَلَيْسَ السَّيِّدُ هُوَ الْمَالِكُ فَحَسْبُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ سَيِّدُ الدَّابَّةِ وَسَيِّدُ الثَّوْبِ كَمَا يُقَالُ سَيِّدُ الْعَبْدِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ وَفْدَ بَنِي عَامِرٍ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَنْتَ سَيِّدُنَا وَذُو الطَّوْلِ عَلَيْنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّيِّدُ هُوَ الله تَكَلَّمُوا بِكَلَامِكُمْ، وَلَا يَسْتَهْوِينَكُمْ الشَّيْطَانُ».
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ السَّادَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلَكِنَّهُ رَآهُمْ مُتَكَلِّفِينَ لِهَذَا الْقَوْلِ، فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ: «إنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ»، فَكُرِهَ لَهُمْ تَكَلُّفُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ التَّصَنُّعِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدًا فَإِنَّهُ إنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ هَلَكْتُمْ»، فَنَهَى أَنْ يُسَمَّى الْمُنَافِقُ سَيِّدًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَالَ الله تعالى: {رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} فَسَمُّوهُمْ سَادَاتٍ وَهُوَ ضَلَالٌ.
قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لَهَا، فَكَانُوا عِنْدَهُمْ وَفِي اعْتِقَادِهِمْ سَادَاتُهُمْ، كَمَا قال تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ} وَلَمْ يَكُونُوا آلِهَةً، وَلَكِنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ آلِهَةً فَأَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى مَا كَانَ فِي زَعْمِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَحَصُورًا}:

.قال الفخر:

الحصر في اللغة الحبس، يقال حصره يحصره حصرًا وحصر الرجل: أي اعتقل بطنه، والحصور الذي يكتم السر ويحبسه، والحصور الضيق البخيل، وأما المفسرون: فلهم قولان:
أحدهما: أنه كان عاجزًا عن إتيان النساء، ثم منهم من قال كان ذلك لصغر الآلة، ومنهم من قال: كان ذلك لتعذر الإنزال، ومنهم من قال: كان ذلك لعدم القدرة، فعلى هذا الحصور فعول بمعنى مفعول، كأنه قال محصور عنهن، أي محبوس، ومثله ركوب بمعنى مركوب وحلوب بمعنى محلوب، وهذا القول عندنا فاسد لأن هذا من صفات النقصان وذكر صفة النقصان في معرض المدح لا يجوز، ولأن على هذا التقدير لا يستحق به ثوابًا ولا تعظيمًا.
والقول الثاني: وهو اختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد، وذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها كالأكول الذي يكثر منه الأكل وكذا الشروب، والظلوم، والغشوم، والمنع إنما يحصل أن لو كان المقتضي قائمًا، فلولا أن القدرة والداعية كانتا موجودتين، وإلا لما كان حاصرًا لنفسه فضلًا عن أن يكون حصورًا، لأن الحاجة إلى تكثير الحصر والدفع إنما تحصل عند قوة الرغبة والداعية والقدرة، وعلى هذا الحصور بمعنى الحاصر فعول بمعنى فاعل. اهـ.

.قال البغوي:

واختار قوم هذا القول لوجهين:
أحدهما: لأن الكلام خرج مخرج الثناء، وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء.
والثاني: أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء. اهـ.

.قال الخازن:

وفيه قول آخر: وهو أن الحصور هو الممتنع عن الوطء مع القدرة عليه، وإنما تركه للعفة والزهد فيه وهذا القول هو الصحيح وهو قول جماعة من المحققين وهو أليق بمنصب الأنبياء لأن الكلام إنما خرج مخرج المدح والثناء وذكر صفة النقص في معرض المدح لا يجوز، وأيضا فإن منصب النبوة يجل من أن يضاف إلى أحد منهم نقص أو آفة، فحمل الكلام على منع النفس من الوطء مع القدرة عليه أولى من حمله على ترك الوطء مع العجز عنه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وذكر هذه الصفة في أثناء صفات المدح إما أن يكون مدحا له، لما تستلزمه هذه الصفة من البعد عن الشهوات المحرمة، بأصل الخلقة، ولعل ذلك لمراعاة براءته مما يلصقه أهل البهتان ببعض أهل الزهد من التهم، وقد كان اليهود في عصره في أشد البهتان والاختلاق، وإما ألا يكون المقصود بذكر هذه الصفة مدحا له لأن من هو أفضل من يحيى من الأنبياء والرسل كانوا مستكملين المقدرة على قربان النساء فتعين أن يكون ذكر هذه الصفة ليحيى إعلاما لزكريا بأن الله وهبه ولدا إجابة لدعوته، إذ قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي} [مريم: 5- 6] وأنه قد أتم مراده تعالى من انقطاع عقب زكريا لحكمة علمها، وذلك إظهار لكرامة زكريا عند الله تعالى.
ووسطت هذه الصفة بين صفات الكمال تأنيسا لزكريا وتخفيفا من وحشته لانقطاع نسله بعد يحيى. اهـ.

.قال القاضي عياض:

اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى بأنه حصور ليس كما قال بعضهم أنه كان هيوبا أو لا ذكر له بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين ونقاد العلماء وقالوا هذه نقيصة وعيب ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصر عنها، وقيل مانعا نفسه من الشهوات، وقيل ليست له شهوة في النساء.
فقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص وإنما الفضل في كونها موجودة ثم قمعها إما بمجاهدة كعيسى عليه السلام أو بكفاية من الله تعالى كيحيى عليه السلام. اهـ.

.قال ابن عادل:

الحصور: فعول للمبالغة، مُحَوَّل من حاصر، كضروب.
وفي قوله: [الطويل]
ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا ** إذَا عَدِمُوا زادًا فَإنَّكَ حَاصِرُ

وقيل: بل هو فَعُول بمعنى: مفعول، أي: محصور، ومثله ركوب بمعنى: مركوب، وحلوب بمعنى: محلوب.
والحصور: الذي يكتم سره.
قال جرير: [الكامل]
وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ** حَصِرًا بِسِرِّكِ يَا أمَيْمَ ضَنِينَا

وهو البخيل- أيضا- قال: [البسيط]
................................ ** لاَ بِالْحَصُورِ وَلاَ فِيهَا بِسَئّارِ

وقد تقدم اشتقاق هذه المادة وهو مأخوذ من المنع؛ وذلك لأن الحصور هو الذي لا يأتي النساء- إما لطبعه على ذلك، وإما لمغالبته نفسه- قال ابنُ مسعودٍ وابن عبَّاس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء والحسن: الحصور: الذي لا يأتي النساء ولا يقربُهُنَّ، وهو- على هذا- بمعنى فاعل، يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات.
قال سعيد بن المُسيِّبِ هو العِنِّين الذي لا ماء له، فيكون بمعنى مفعول كأنه ممنوع من النساء.
واختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد- مثل الشروب والظلوم والغشوم- والمنع إنما يحصل إذا كان المقتضي قائمًا، والدفع إنما يحصل عند قوة الداعية والرغبة والغِلْمَة. والكلام إنما خرج مخرج الثناء وأيضا فإنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء- والصفة التي ذكروها صفة نقص، وذكر صفة النقصان في معرِض المدحِ، لا يجوز، ولا يستحق به ثوابًا ولا تعظيمًا. اهـ.